ذكرنا ما قيل في العقل بقسميه الغريزي والمكتسب وسنذكر ما قاله العلاَّمة الماوردي في الْهَوَى ..
وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ ، وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ الْأَخْلَاقِ قَبَائِحَهَا ، وَيُظْهِرُ مِنْ الْأَفْعَالِ فَضَائِحَهَا ، وَيَجْعَلُ سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا ، وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
ثُمَّ تَلَا : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ { وَتَرَبَّصْتُمْ } يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ { وَارْتَبْتُمْ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ { وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ } يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } يَعْنِي الْمَوْتَ { وَغَرَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَاعَةُ الشَّهْوَةِ دَاءٌ ، وَعِصْيَانُهَا دَوَاءٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طَلَّاعَةٌ تَنْزِعُ إلَى شَرِّ غَايَةٍ .
إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ ، وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ ، وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ وَرُبَّ نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً ، وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ : اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الْأَمَلِ .
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ وَطُولَ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى ؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ .
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ غَلِطَ بِاسْمِهِ ، فَأَخَذَهُ الشَّاعِرُ وَقَالَ : إنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ ، أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ صَدِيقٌ مَقْطُوعٌ ، وَالْهَوَى عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَصَى هَوَاهُ ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ رَفَضَ دُنْيَاهُ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى ... إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ ,
وقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
إذَا مَا رَأَيْت الْمَرْءَ يَعْتَادُهُ الْهَوَى ... فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ ثَوَاكِلُهْ
وَقَدْ أَشْمَتَ الْأَعْدَاءَ جَهْلًا بِنَفْسِهِ ... وَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالًا عَوَاذِلُهْ
وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى ... مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ .
فَلَمَّا كَانَ الْهَوَى غَالِبًا وَإِلَى سَبِيلِ الْمَهَالِكِ مَوْرِدًا جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا مُجَاهِدًا يُلَاحِظُ عَثْرَةَ غَفْلَتِهِ ، وَيَدْفَعُ بَادِرَةَ سَطْوَتِهِ ، وَيَدْفَعُ خِدَاعَ حِيلَتِهِ ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى قَوِيٌّ ، وَمَدْخَلٌ مَكْرِهِ خَفِيٌّ .
وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُؤْتَى الْعَاقِلُ حَتَّى تَنْفُذَ أَحْكَامُ الْهَوَى عَلَيْهِ أَعْنِي بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : قُوَّةَ سُلْطَانِهِ وَبِالْآخَرِ خَفَاءَ مَكْرِهِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ أَنْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْهَوَى بِكَثْرَةِ دَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مُغَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ فَيَكِلُّ الْعَقْلُ عَنْ دَفْعِهَا ، وَيَضْعُفُ عَنْ مَنْعِهَا ، مَعَ وُضُوحِ قُبْحِهَا فِي الْعَقْلِ الْمَقْهُورِ بِهَا ،
وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ أَكْثَرَ وَعَلَى الشَّبَابِ أَغْلَبَ ؛ لِقُوَّةِ شَهَوَاتِهِمْ ؛ وَكَثْرَةِ دَوَاعِي الْهَوَى الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوا الشَّبَابَ عُذْرًا لَهُمْ ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ : كُلٌّ يَرَى أَنَّ الشَّبَابَ لَهُ فِي كُلِّ مَبْلَغِ لَذَّةٍ عُذْرَا وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهَوَى مَلِكٌ غَشُومٌ ، وَمُتَسَلِّطٌ ظَلُومٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْهَوَى عَسُوفٌ ، وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
يَا عَاقِلًا أَرْدَى الْهَوَى عَقْلَهُ ... مَالَك قَدْ سُدَّتْ عَلَيْك الْأُمُورُ
أَتَجْعَلُ الْعَقْلَ أَسِيرَ الْهَوَى ... إنَّمَا الْعَقْلُ عَلَيْهِ أَمِيرُ
وَحَسْمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْعَقْلِ عَلَى النَّفْسِ النُّفُورَةِ فَيُشْعِرُهَا مَا فِي عَوَاقِبِ الْهَوَى مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ ، وَقُبْحِ الْأَثَرِ ، وَكَثْرَةِ الْإِجْرَامِ ، وَتَرَاكُمِ الْآثَامِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } .
أَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْجَنَّةِ احْتِمَالُ الْمَكَارِهِ ، وَالطَّرِيقَ إلَى النَّارِ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا ذَمِيمٌ ، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِرْهَابِ ، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ لِهَوَاك مُسَوِّفًا ، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا ، وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى دَاؤُهَا ، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا ، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ ، كَمَا تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتْ ... وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى ... فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ
فَإِذَا انْقَادَتْ النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ الْهَوَى لَمْ يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا ، وَبِالنَّفْسِ مَقْهُورًا ، ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى فِي ثَوَابِ الْخَالِقِ وَثَنَاءِ الْمَخْلُوقِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ الِامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَعَصَى هَوَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ ، فَقَدْ أَحْيَا مُرُوءَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ ، وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ غَلَّبَ عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ، وَأَحْرَاهُمْ بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى طَاعَةً لِرَبِّهِ ، وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
قَدْ يُدْرِكُ الْحَازِمُ ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى ... بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ أَفْعَالُهُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ نَفْعًا .
وَهَذَا يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ لِحُسْنِ ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ الْمَوْعِظَةِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْهَوَى عَمًى .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ ، وَالرَّأْيُ أَنْفَعُ .
وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ ، وَالْهَوَى وَكِيلٌ فَاضِحٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَحَسْمُ السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى نَظَرِ عَيْنِهِ .
فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ ، وَالشَّهْوَةَ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ دَوَاعِي الْعَقْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ ، وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلًا ، وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَتَرَكَ أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ ، وَلِلْهَوَى آثَرُ .
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ ، وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَتُعَجِّلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ وَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ بَعْدَ الْفَوْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك مُعْرِضًا ، فَلَا تَكُنْ بِهِ مُتَعَرِّضًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ جَهْلًا وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ : الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ ، وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ ، فَانْزِلْ عَنْ الْهَوَى تَسْلَمْ ، وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَوَاك بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ الْعَوَارِيّ .
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ تُرْتَجَعُ ، وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ ، وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ الْمَآثِمِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيُّ : سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ ، وَأَنَا أُنْشِدُ : أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى .
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ ، فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ ، وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ .
فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ أَخَصُّ ، وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ .
وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا دَوَاعِيَ الْهَوَى ، وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى ، وَيَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا ، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
تلك قطفة نوعية مما أورد الماوردي في شأن الهوى والذي نعوذ بالله من الوقوع تحت تأثيره وسلطانه .
وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ ، وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ الْأَخْلَاقِ قَبَائِحَهَا ، وَيُظْهِرُ مِنْ الْأَفْعَالِ فَضَائِحَهَا ، وَيَجْعَلُ سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا ، وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
ثُمَّ تَلَا : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ { وَتَرَبَّصْتُمْ } يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ { وَارْتَبْتُمْ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ { وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ } يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } يَعْنِي الْمَوْتَ { وَغَرَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَاعَةُ الشَّهْوَةِ دَاءٌ ، وَعِصْيَانُهَا دَوَاءٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طَلَّاعَةٌ تَنْزِعُ إلَى شَرِّ غَايَةٍ .
إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ ، وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ ، وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ وَرُبَّ نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً ، وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ : اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الْأَمَلِ .
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ وَطُولَ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى ؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ .
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ غَلِطَ بِاسْمِهِ ، فَأَخَذَهُ الشَّاعِرُ وَقَالَ : إنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ ، أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ صَدِيقٌ مَقْطُوعٌ ، وَالْهَوَى عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَصَى هَوَاهُ ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ رَفَضَ دُنْيَاهُ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى ... إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ ,
وقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
إذَا مَا رَأَيْت الْمَرْءَ يَعْتَادُهُ الْهَوَى ... فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ ثَوَاكِلُهْ
وَقَدْ أَشْمَتَ الْأَعْدَاءَ جَهْلًا بِنَفْسِهِ ... وَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالًا عَوَاذِلُهْ
وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى ... مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ .
فَلَمَّا كَانَ الْهَوَى غَالِبًا وَإِلَى سَبِيلِ الْمَهَالِكِ مَوْرِدًا جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا مُجَاهِدًا يُلَاحِظُ عَثْرَةَ غَفْلَتِهِ ، وَيَدْفَعُ بَادِرَةَ سَطْوَتِهِ ، وَيَدْفَعُ خِدَاعَ حِيلَتِهِ ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى قَوِيٌّ ، وَمَدْخَلٌ مَكْرِهِ خَفِيٌّ .
وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُؤْتَى الْعَاقِلُ حَتَّى تَنْفُذَ أَحْكَامُ الْهَوَى عَلَيْهِ أَعْنِي بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : قُوَّةَ سُلْطَانِهِ وَبِالْآخَرِ خَفَاءَ مَكْرِهِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ أَنْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْهَوَى بِكَثْرَةِ دَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مُغَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ فَيَكِلُّ الْعَقْلُ عَنْ دَفْعِهَا ، وَيَضْعُفُ عَنْ مَنْعِهَا ، مَعَ وُضُوحِ قُبْحِهَا فِي الْعَقْلِ الْمَقْهُورِ بِهَا ،
وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ أَكْثَرَ وَعَلَى الشَّبَابِ أَغْلَبَ ؛ لِقُوَّةِ شَهَوَاتِهِمْ ؛ وَكَثْرَةِ دَوَاعِي الْهَوَى الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوا الشَّبَابَ عُذْرًا لَهُمْ ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ : كُلٌّ يَرَى أَنَّ الشَّبَابَ لَهُ فِي كُلِّ مَبْلَغِ لَذَّةٍ عُذْرَا وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهَوَى مَلِكٌ غَشُومٌ ، وَمُتَسَلِّطٌ ظَلُومٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْهَوَى عَسُوفٌ ، وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
يَا عَاقِلًا أَرْدَى الْهَوَى عَقْلَهُ ... مَالَك قَدْ سُدَّتْ عَلَيْك الْأُمُورُ
أَتَجْعَلُ الْعَقْلَ أَسِيرَ الْهَوَى ... إنَّمَا الْعَقْلُ عَلَيْهِ أَمِيرُ
وَحَسْمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْعَقْلِ عَلَى النَّفْسِ النُّفُورَةِ فَيُشْعِرُهَا مَا فِي عَوَاقِبِ الْهَوَى مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ ، وَقُبْحِ الْأَثَرِ ، وَكَثْرَةِ الْإِجْرَامِ ، وَتَرَاكُمِ الْآثَامِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } .
أَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْجَنَّةِ احْتِمَالُ الْمَكَارِهِ ، وَالطَّرِيقَ إلَى النَّارِ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا ذَمِيمٌ ، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِرْهَابِ ، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ لِهَوَاك مُسَوِّفًا ، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا ، وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى دَاؤُهَا ، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا ، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ ، كَمَا تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتْ ... وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى ... فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ
فَإِذَا انْقَادَتْ النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ الْهَوَى لَمْ يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا ، وَبِالنَّفْسِ مَقْهُورًا ، ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى فِي ثَوَابِ الْخَالِقِ وَثَنَاءِ الْمَخْلُوقِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ الِامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَعَصَى هَوَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ ، فَقَدْ أَحْيَا مُرُوءَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ ، وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ غَلَّبَ عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ، وَأَحْرَاهُمْ بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى طَاعَةً لِرَبِّهِ ، وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
قَدْ يُدْرِكُ الْحَازِمُ ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى ... بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ أَفْعَالُهُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ نَفْعًا .
وَهَذَا يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ لِحُسْنِ ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ الْمَوْعِظَةِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْهَوَى عَمًى .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ ، وَالرَّأْيُ أَنْفَعُ .
وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ ، وَالْهَوَى وَكِيلٌ فَاضِحٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَحَسْمُ السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى نَظَرِ عَيْنِهِ .
فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ ، وَالشَّهْوَةَ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ دَوَاعِي الْعَقْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ ، وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلًا ، وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَتَرَكَ أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ ، وَلِلْهَوَى آثَرُ .
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ ، وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَتُعَجِّلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ وَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ بَعْدَ الْفَوْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك مُعْرِضًا ، فَلَا تَكُنْ بِهِ مُتَعَرِّضًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ جَهْلًا وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ : الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ ، وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ ، فَانْزِلْ عَنْ الْهَوَى تَسْلَمْ ، وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَوَاك بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ الْعَوَارِيّ .
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ تُرْتَجَعُ ، وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ ، وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ الْمَآثِمِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيُّ : سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ ، وَأَنَا أُنْشِدُ : أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى .
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ ، فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ ، وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ .
فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ أَخَصُّ ، وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ .
وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا دَوَاعِيَ الْهَوَى ، وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى ، وَيَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا ، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
تلك قطفة نوعية مما أورد الماوردي في شأن الهوى والذي نعوذ بالله من الوقوع تحت تأثيره وسلطانه .