X

علوم البلاغة ,, من لفظ البديع إلى سجع الكلام

المنتدى العام

 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts
  • أنيس
    Thread Author
    VIP
    • Sep 2018 
    • 1283 
    • 585 
    • 1,001 

    حلَّت المقامات الأدبية في لائحة الأدب العربي في مطلع الألفية الثانية للتقويم الميلادي وهي كتابات ذات طابع قصصي تعني بالأسلوب البلاغي المميز بالصنعة وبديع اللفظ والسجع والجناس ..
    واختلف الأدباء والنقاد حول هذه المقامات الأدبية , فالدكتور شوقي ضيف أنكر أن تكون المقامات قصة فقال :
    "إنها -وإن اشتملت على بعض العناصر القصصية كالحوار والمضمون، وتصوير عناصر الشر والفساد للمجتمع- تفتقر عادة إلى الحبكة، إذ تنحو نحو بلاغة اللفظ، وحب اللغة لذاتها؛ فالقصص فيها ليس أساسًا، وإنما الأساس العرض الخارجي والحلية اللفظية".
    ومنهم من قال " هذا كلام غريب مجاف للحقيقة، ذلك أن المقامة يتحقق فيها الجانبان معًا ، وعلى أحسن وضع في معظم الحالات يتحقق الجانب القصصي وجانب زخرفة الأسلوب " .
    إلاَّ أن جميع أهل الأدب قد وصفوا تلك الفترة من أيام العرب بالركود الفكري نظراً لخمود جذوة الإبداع والقيمة العلمية والأدبية في أقلام كُتَّاب تلك الفترة لما انشغل به العرب من نزاعات داخلية وخارجية أثرت في ذلك .
    وبعيداً عن حديث النقاد سنضع أمام القارئ العزيز أحد هذه المقامات التي كتبها محمد الحريري نرجو أن تنال الإعجاب وأن يجد فيها ما هو جديد على لسانه وخياله وفكره الرشيد , واليكم مقتطف من هذه المقامة وهي بعنوان " المقامة المضيرية "، اقتطفنا منها هذا النص كمثال عن المقامات .
    " حدثنا عيسى بن هشام، قال: كنت بالبصرة، ومعي أبو الفتح الإسكندري، رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار؛ فقدمت إلينا مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية -رحمه الله- بالإمامة، في قصعة يزِّل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف، فلما أخذت من الخوان مكانها، ومن القلوب أوطانها؛ قام أبو الفتح الإسكندري يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها.
    وظنناه يمزح، فإذا الأمر بالضد، وإذا المزاح عين الجد، وتنحى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان ورفعناها، فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد، ولكنا ساعدناه على هجرها، وسألناه عن أمرها؛ فقال: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها، ولو حدثتكم بها لم آمن الشت وإضاعة الوقت.
    قلنا: هاتِ، قال: دعاني بعض التجار إلى مضيرة، وأنا ببغداد، ولزمني ملازمة الغريم والكلب لأصحاب الرقيم، إلى أن أجبته إليها، وقمنا فجعل طول الطريق يثني على زوجته، ويُفَدّيها بمهجته، ويصف حذقها في صنعتها، وتأنقها في طبخها، ويقول: يا مولاي، لو رأيتها والخرقة في وسطها، وهي تدور في الدور، من التنور إلى القدور، ومن القدور إلى التنور، تنفث بفيها النار، وتدق بيديها الأبزار، ولو رأيت الدخان، وقد غبر في ذلك الوجه الجميل، وأثر في ذلك الخد الصقيل، لرأيتَ منظرًا تحار فيه العيون، وأنا أعشقها؛ لأنها تعشقني، ومن سعادة المرء أن يرزق المساعدة من حليلته، وأن يسعد بظعينته، ولا سيما إذ كانت من طينته.
    وهي ابنه عمي لحى طينتها طينتي، ومدينتها مدينتي، وعمومتها عمومتي، وأرومتها أرومتي؛ لكنها أوسع مني خُلقًا، وأحسن خَلقًا، وصدعني بصفات زوجته، حتى انتهينا إلى محلته.
    ثم قال: يا مولاي، ترى هذه المحلة! هي أشرف محال بغداد، يتنافس الأخيار في نزولها، ويتغايرُ الكبار في حلولها، ثم لا يسكنها غير التجار، وإنما المرء بالجار، وداري في السطة من قلادتها، والنقطة من دائرتها، كم تقدر يا مولاي أنفقت على تلك الدار ؟. قله تخمينًا إن لم تعرفه يقينًا،
    فكأنما خط بالبركار، وانظر إلى حذق النجار في صنعة هذا الباب، اتخذه من كم؟ قل: ومن أين أعلم؟ هو ساج في قطعة واحدة، لا مأرود ولا عفن، إذا حُرِّك أنَّ ، وإذا نُقرَ طنَّ ، من اتخذه يا سيدي؟ اتخذه أبو إسحاق بن محمد البصري، وهو والله رجل نظيف الأثواب، بصير بصنعة الأبواب، خفيف اليد في العمل؛ لله در ذلك الرجل، بحياتي لا استعنت إلا به إلا على مثله.
    وهذه الحلقة؛ تراها اشتريتها في سوق الطرائف، من عمران الطرائفي بثلاثة دنانير معزية، وكم فيها يا سيدي من الشبه؟ فيها ستة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب، بالله دورها ثم أنقرها وأبصرها، وبحياتي عليك إذا اشتريت الحلق إلا منه؛ فليس يبيع إلا الأعلاق، ثم قرع الباب، ودخلنا الدهليز، وقال: عَمّرك الله يا دار، ولا خربك يا جدار؛ فما أمتن حيطانك، وأوثق بنيانك، وأقوى أساسك، تأمل بالله معارجها، وتبين دواخلها وخوارجها، وسلني كيف حصلتها؟ وكم من حيلة احتلتها حتى عقدتها؟.
    قلت: الكثير، قال: يا سبحان الله! ما أكبر هذا الغلط، تقول الكثير فقط، وتنفس الصعداء، وقال: سبحان من يعلم الأشياء.
    وانتهينا إلى باب داره، فقال: هذه داري، كم تقدر يا مولاي أنفقت على هذه الطاقة؟ أنفقت والله عليها فوق الطاقة، ووراء الفاقة، كيف ترى صنعتها وشكلها؟ أرأيت بالله مثلها؟ انظر لدقائق الصناعة فيها، وتأمل حسن تعريجها، فكأنما خط بالبركار، وانظر إلى حذق النجار في صنعة باب الدار ، اتخذ عليه كم؟. ,, قل: ومن أين أعلم ,,؟.
    هو ساج في قطعة واحدة، لا مأرود ولا عفن، إذا حُرِّك أنَّ، وإذا نُقر طنَّ، من اتخذه يا سيدي؟,, اتخذه أبو إسحاق بن محمد البصري، وهو والله رجل نظيف الأثواب، بصير بصنعة الأبواب، خفيف اليد في العمل؛ لله در ذلك الرجل، بحياتي لا استعنت إلا به إلا على مثله.
    وهذه الحلقة؛ تراها اشتريتها في سوق الطرائف، من عمران الطرائفي بثلاثة دنانير معزية، وكم فيها يا سيدي من الشبه؟ فيها ستة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب، بالله دوِّرها ثم أنقرها وأبصرها، وبحياتي عليك إذا اشتريت الحلق إلا منه؛ فليس يبيع إلا الأعلاق، ثم قرع الباب، ودخلنا الدهليز، وقال: عَمّرك الله يا دار، ولا خربك يا جدار؛ فما أمتن حيطانك، وأوثق بنيانك، وأقوى أساسك، تأمل بالله معارجها، وتبين دواخلها وخوارجها، وسلني كيف حصلتها؟ وكم من حيلة احتلتها حتى عقدتها؟... "
    وبعد أن نلنا المُرام نتوقف عن سرد المقام , ولو تتبعنا الكلام عن هذا الغلام وما جرى معه في سالف الأيام لوجدنا بن هشام قد زار دار ذلك البطل الهمَّام وعاد بلا طعام , ورب أن يكون قاربه الموت الزؤام وتحلل من الوئام مع ذاك الغلام بعد أن نال من الجوع ما قارب الصيام , فأخذ بالرمح والحسام للخلاص من ذاك الثرثار الهوَّام ,,
    فأرجو يا إخوتنا الكرام أن أكون أحسنت الختام ومني إليكم ألف تحية وسلام ..

Working...
X