الرد على صاحب مقال "البخاري وحده لا شريك له ج1"
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد..
قامت إحدى الجرائد الصفراء الخبيثة بنشر عدة مقالات لكاتب حاقد على الإسلام وأهله وإن كان يَتَسَمَّى باسم من أسماء المسلمين، شنَّ هذا الحاقــد حمــلة شعواء على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين ثم لم يترك إمام الأئمة البخاريَّ رحمه الله تعالى إلا وأراد النيل منه والطعن في صحيحه الذي هو أصحُّ كتاب بين يدي المسلمين بعد كتاب الله تعالى!
لذا استعنتُ بالله تعالى وكتبت هذه الكلمات في عجالة فيما يختص بمقاله الأول، وإن شاء الله تعالى ومدَّ في العمر سأكتب للردِّ على بقية مقالاته ناشرًا للردِّ بين المسلمين راجيًا من الله تعالى حسن الفهم والقبول لهذه الردود حتى يكون المسلمون على بينة من أمرهم ومما يُكاد لهم ولدينهم وحتى يتمكنوا من الردِّ على مَن تلقَّفَ هذه المقالات الخبيثة بالقبول من المسلمين.
قمتُ في البداية بإدراج ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله تعالى متضمنةً شيئًا من حياته وحفظه وثناء العلماء عليه وعلى صحيحه حتى مماته رحمه الله تعالى رحمة واسعة وألحقنا به في جنات النعيم، آمين.
ثم قمتُ بإدراج كلام هذا الحاقد مُصَدِّرًا إياه بكلمة (قال)، ثم عقَّبتُ عليه مُصَدِّرًا كلامي بكلمة (نقول).
ونشرع الآن بحول الله وقوته في الرد:
أولاً: ترجمة أمير أهل الحديثِ مُحمد بن إسماعيل البُخارِيّ
بابُ مولِدِهِ ونسبه: قال الإمام الذهبي رحمه الله: هو الإمام الحجة العلم الناقد المجتهد شيخ الإسلام قـدوة الحفّاظ أبــو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري.
المُصَنِّفُ للجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه،, والتاريخ الكبير والأدب المفرد وغير ذلك من التّواليف المهذّبة التي لم يُسبق إليها.
* أبوه: قال البخاري: سمع أبي من مالك بن أنس، ورأى حماد بن زيد، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه.
* مولده: ولد أبو عبد الله في شوال سنة 194 هجري، ورُبّيَ يتيمًا في حجر أمّه.
* صفته: كان محمد بن إسماعيل شيخًا نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير.
* فَقْدُ بصره في الصّغر: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال لها: يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره.
* باب بَدءِ طلبِه العلم: وعن محـمد بن أبـي حاتم، قال: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان (يعني ابن عيينة)، عن أبي الزبير(يعني محمد بن مسلم بن تَدْرُس)، عن إبراهيم (النّخعي)، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل. فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن 11سنة.
* بابُ ذكر تَصانيفه:
* التاريخ الكبير: يُعتبر (التاريخ الكبير) للبخاري من أنفس ما كتب في علم الجرح والتعديل. و (التّاريخ الكبير) أعجوبة حيّرت المُحدّثين.
قال محمد بن أبي حاتم: وسمعته يقول: صنفت جميع كتبي ثلاثً مرّات.
وسمعته يقول: أخذ إسحاق بن راهويهِ كتاب (التّاريخ) الذي صنفتُ، فأدخلهُ على عبد الله بن طاهر (حاكم خرسان)، فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله، فتعجب، منه، وقال لست أفهم تصنيفه.
* الصّحيح الجامع:
قال الإمام الذّهبي رحمه ُ الله تعالى: وأما (الصحيح) فهو أعلى ما وقع لنا من الكتب الستة في أول ما سمعت الحديث، وذلك في سنة 692. فما ظنّك بعُلوّهِ اليوم وهو سنة 715؟!! لو رَحَلَ الرجلُ من مسيرة سنة لسماعِهِ لَمَا فَرَّطَ. كيف وقد دام علوّه إلى عام ثلاثين؟ وهو أعلى الكـتـب الستـة سنـدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء كثــير من الأحاديــث; وذلــك لأن أبا عبد الله أسنُّ الجماعة، وأقدمهم لقيا للكبار، أخذ عن جماعةٍ يروي الأئمة الخمسة عن رجل عنهم.
قال الذّهبي رحمهُ الله تعالى: جزاهُ الله عن الإسلام خيرا, نِعْمَ ما ادَّخر لمَعادِه.
وقال خلف الخيام: سمعت إبراهيم بن معقل، سمعت أبا عبد الله يقول: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب.
قال البخاري : أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث. وقال: صنفت (الصحيح) في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.
وقال محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتابي (الصحيح ) حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين.
وفي الصحيح 7275 حديثا بالمكرر و4000 بحذف المكرر.
* بابُ ذكر رِحْلته في طلب العلم: دخوله العراق:
دخل محمد بن إسماعيل إلى العراق في آخر سنة 210 وعزم على المشيِ إلى عبد الرّزاق صاحبُ المُصنّف فبلغه وفاته، مع أنّ قُدماء شيوخه أعلى من عبد الرّزاق.
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت البخاري يقول: دخلت بغداد ثماني مرات، في كلّها أجالس أحمد بن حنبل، فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله، تدعُ العلم والناس، وتصير إلى خُراسان؟ ! قال: فأنا الآن أذكر قوله.
دخوله نيسابور (في خرسان, مدينة عظيمة, معدنُ الفضلاء ومنبع العلماء, واليوم هي في إيران).
وقال الإمام أبو عبد الله الحاكم صاحب كتاب المستدرك: أول ما ورد البخاري نيسابور سنة 209، ووردها في الأخير سنة 250، فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام.
* اجتهادهِ في طلب للعلم: وقال محمد بن أبي حاتم الورّاق: كان أبو عبد الله، إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ(صَمِيمُ الصيْف) أحيانا، فكنت أراهُ يقومُ في ليلةٍ واحدةٍ خمسَ عشْرَةَ مرّة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القدّاحة، فيوري نارًا، ويُسْرِجُ، ثم يُخْرِّجُ أحاديث، فيعلّمُ عليها.
* بُشرى المؤمن رُؤيا تُرى له: وقال محمد الورّاق: سمعت النجم بن الفضيل يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، كأنه يمـشي، ومحمَّـد بن إسمـاعيل يمشـي خلفـه، فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه، وضع محمد بن إسماعيل قدمه في المكان الذي رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه.
* تحرّيه الشّيوخ في أخذِ الحديث: قال البخاري: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء. كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث، إن كان الرجل فَهْمًا. فإن لم يكن سألته أن يخرج إليَّ أصله ونُسخته. فأمّا الآخرون لا يُبالون ما يَكتبون، وكَيْفَ يكتبون!.
قال الورّاق: وسمعته قبل موته بشهر يقول: كتبت عن ألف وثمانين رجلا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وسمَّى خلقا. ثم قال: فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء (أن الدين قول وعمل)، وأن القرآن كلام الله.
* بابُ سِعَةُ حفظه وعلمهِ وعلوِّ كعبه: كان نجمًا في عصرهِ الذي زخم بالعُلماء الكبار...
قال الورّاق: سمعت إبراهيم الخواص يقول: رأيت أبا زرعة كالصبي جالسا بين يدي محمد بن إسماعيل، يسأله عن علل الحديث. (وأبو زرعة هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد سيّد الحُفّاظ).
وقال: سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي، فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد...
* في البصرة: يغلبهُ النّاسُ فيعقد مجلسهُ في الطّريق:
كان أهل المعرفة من البصريين يَعْدون خَلفَهُ في طلبِ الحديث وهو شابٌّ حتى يَغْلِبوه على نفسه، ويُجلِسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوفٌ، أكثرُهُم مِمّن يكتب عنْهُ. وكان شابًّا لم يخرج وجهه.(ليس له لحية). وكان يحضُر مجلسهُ ألوف بالبَصرة فحدّثهم يومًا بأحاديث بصريّة, وقال: هذه ليست عندكم!.
مـلـحـوظـة هـامـة: القصة التالية لا تصح لجهالة شيوخ ابن عدي المروية عنهم.(يحيى صالح).
* أهل بغداد يَمتحنون البُخاريَّ:
وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمِعَ به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مِائة حديثٍ، فقلبوا مُتونَها وأسانيدَها، ودفعوا إلى كل واحد عشرةَ أحاديث ليُلقِيَها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عَشَرَتِه، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. وكذلك حتى فرغ من عَشَرَتِه. فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعضٍ، ويقولون: الرجل فَهِمَ. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعَجْزِ، ثم سأله الثاني والثّالث حتّى فرغوا, وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه. فلما علم أنّهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا وكذا، والثالث كذا إلى العشرة، يرُدُّ كلُّ متن إلى إسناده حتى كمل المائة. فأقرَّ له الناس بالحفظ.
انتهت القصة، وهي غير صحيحة، والإمام البخاري رحمه الله تعالى في غنىً عن تزكيته بما لا يصح.(يحيى صالح).
* أهل سمرقند يَمتحنونه: وكان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام،وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد، ولا في المتن.
* يُسأل عن الأسامي والكُنى: وقال أحمد بن حمدون: رأيت محمد ابن إسماعيل في جنازة سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسامي والكنى والعلل، ومحمد بن إسماعيل يمر فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: "قل هو الله أحد".
* كثرة شيوخه: عن جعفر بن محمد القطان إمام كرْمينية يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده.
* بابُ ذِكرِ ثناء الأئمّةِ عليه:
* الإمامُ مُسلم بن الحجاج الإمام صاحبُ الصّحيح:
وجاء إلى البخاري فقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذَ الأسْتاذين، وسيدَ المحدثين، وطبيبَ الحديث في عِلَلِهِ.
(الأستاذ: هي كلمة أعجمية دخيلة على اللّغة العربية تُطلقُ على المُعلّم الماهرِ بالشّيء)
* عبد الله بن مُنير وأبو عيسى محمّد بن عيسى التّرمذي:
وقال أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله ابن منير، فلما قامَ مِنْ عِنْده قال له: يا أبا عبد الله، جعلك الله زَيْنَ هذه الأمة. قال الترمذي: استُجيب له فيه.
* قُتيبة بن سعيد بن جميل أبو رجاء الثّقفي شيخ الإسلام المحدّث الإمام شيخ البُخاري:
وقال محمد بن يوسف (الفريابي): كنا عند أبي رجاء، فسُئِل عن طلاق السكران، فقال: هذا أحمد بن حنبل وابن المديني وابن راهويه قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى محمد بن إسماعيل. وكان مذهبُ محمد أنه إذا كان مغلوبُ العقلِ حتّى لا يذكر ما يُحدِّث في سكره، أنه لا يجوز عليه من أمره شيء.
* بُنْدَار الإمامُ الحافظ محمد بن بشار (لقب بذلك، لأنه كان بندار الحديث في عصره ببلده، والبندار الحافظ )، وكان يُحبُّ البُخاري ويُقدّرهُ ويفتخر به:
قال حاشد بن إسماعيل: كنت بالبصرة، فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل، فلما قدم قال بندار: اليوم دخل سيد الفقهاء.
قال محمد بن يوسف الفريابي: لمّا دخلت البصرة صرت إلى بِنْدار، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من خُراسان. قال: من أيها؟ قلت: من بُخارَى، قال: تعرف محمد بن إسماعيل؟ قلت: أنا من قرابته، فكان بعد ذلك يرفعني فوق الناس.
* أبو عبد الله إمام أهل السّنة أحمد بن حنبل:
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما أخرجت خراسان مثلَ محمد بن إسماعيل.
* بابُ ذكر مِحْنته:
* قول الإمام البُخاريّ في خلق القرآن:
قال الفربري: سمعت البخاري يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال مخلوق فهو كافر.
* محنتهُ مع والي بُخارى:
بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احمل إليَّ كتاب (الجامع) و (التاريخ) وغيرهما لأسمع منك. فقال لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس. فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري. وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبيصلى الله عليه وسلم : "من سُئِلَ عن علمٍ فكتمهُ ألجِم بلِجامٍ من نار" فكان سبب الوحشة بينهما هذا، فاستعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، فدعا عليهم، فلم يأت إلا شهر حتى ورد أمر بأن ينادى على خالد في البلد، فنودي عليه على أتان. وأما حريث، فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيها ما يجل عن الوصف. وأما فلان، فابتلي بأولاده، وأراه الله فيهم البلايا.
* محنتهُ مع محمد بن يحيى الذهلي في مسألة "اللفظ بالقرآن":
قال مسلم بن الحجاج: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، استقبلوه مرحلتين وثلاثة. فقال محمد بن يحيى في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله. فاستقبله محمد بن يحيى (الذُّهلي) وعامة العلماء، فنزل دار البخاريين، فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شيء من الكلام، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه، وقع بيننا وبينه، ثم شَمِتَ بنا كل حروري، وكلُّ رافضي، وكلّ جهْمي، وكل مُرجِئ بِخراسان. قال: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل، حتى امتلأ السّطحُ والدّار، فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث، قام إليه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه. فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه. ثم قال في الثالثة، فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة. فشغَّب الرجل، وشغَّب الناس، وتفرقوا عنه، فقال بعض الناس: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، حتى تواثبوا، فاجتمع أهل الدار، وأخرجوهم.
ولم يبقَ مع الإمام البخاري سوى الإمام مسلم وأحمد بن سلمة (أحمد بن سلمة بن عبد الله: الحافظ، الحجة، العدل، المأمون، المجود أبو الفضل النيسابوري البزاز، رفيق مسلم في الرحلة).
* الإمامُ يَشكو بثّهُ وحزنَهُ إلى الله عزّ وجل:
وقال أحمد بن سلمة: دخلت على البخاري، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا رجل مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه، فما ترى؟ فقبض على لحيته، ثم قال: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرًا، ولا طلبًا للرئاسة، وإنما أبت عليَّ نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين، وقـد قصـدني هذا الرجـل حسدًا لِمَا آتاني الله لا غير. ثم قال لي: يا أحمد، إني خارج غدًا لتتخلصوا من حديثه لأجلي.
* بابُ ذكرِ وفاته :
قال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خَرْتَنْكُ -قرية قريبة من سمرقند - وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات.
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله يقول: إنه أقام عندنا أيامًا، فمرض، واشتد به المرض حتى وجه رسولا إلى مدينة سمرقند في إخراج محمد، فلما وافى تهيأ للركوب، فلبس خفيه، وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل أخذ معي يقوده إلى الدابة ليركبها، فقال - رحمه الله -: أرسلوني، فقد ضعفت. فدعا بدعوات، ثم اضطجع، فقضى رحمه الله. فسال منه العرق شيء لا يوصف. فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه. وكان فيما قال لنا، وأوصى إلينا أن كفنوني في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ففعلنا ذلك. فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك، فدام ذلك أياما، ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره، فجعل الناس يختلفون، ويتعجبون. وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر، حتى ظهر القبر، ولم نكن نقدر على حفظ القبر بالحراس. وغُلِبْنا على أنفسنا، فنصبنا على القبر خشبا مشبكا لم يكن أحد يقدر على الوصول إلى القبر فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب، ولم يكونوا يخلصون إلى القبر.. وأما ريح الطيب فإنه تداوم أياما كثيرة، حتى تحدث أهل البلدة، وتعجبوا من ذلك، وظهر عند مخالفيه أمره بعد وفاته، وخرج بعض مخالفيه إلى قبره، وأظهروا التوبة والندامة مما كانوا شرعوا فيه من مذموم المذهب.
وقال ابن عدي: سمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة 256. وعاش 62 سنة إلا 13 يوما.
********************************************
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد..
قامت إحدى الجرائد الصفراء الخبيثة بنشر عدة مقالات لكاتب حاقد على الإسلام وأهله وإن كان يَتَسَمَّى باسم من أسماء المسلمين، شنَّ هذا الحاقــد حمــلة شعواء على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين ثم لم يترك إمام الأئمة البخاريَّ رحمه الله تعالى إلا وأراد النيل منه والطعن في صحيحه الذي هو أصحُّ كتاب بين يدي المسلمين بعد كتاب الله تعالى!
لذا استعنتُ بالله تعالى وكتبت هذه الكلمات في عجالة فيما يختص بمقاله الأول، وإن شاء الله تعالى ومدَّ في العمر سأكتب للردِّ على بقية مقالاته ناشرًا للردِّ بين المسلمين راجيًا من الله تعالى حسن الفهم والقبول لهذه الردود حتى يكون المسلمون على بينة من أمرهم ومما يُكاد لهم ولدينهم وحتى يتمكنوا من الردِّ على مَن تلقَّفَ هذه المقالات الخبيثة بالقبول من المسلمين.
قمتُ في البداية بإدراج ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله تعالى متضمنةً شيئًا من حياته وحفظه وثناء العلماء عليه وعلى صحيحه حتى مماته رحمه الله تعالى رحمة واسعة وألحقنا به في جنات النعيم، آمين.
ثم قمتُ بإدراج كلام هذا الحاقد مُصَدِّرًا إياه بكلمة (قال)، ثم عقَّبتُ عليه مُصَدِّرًا كلامي بكلمة (نقول).
ونشرع الآن بحول الله وقوته في الرد:
أولاً: ترجمة أمير أهل الحديثِ مُحمد بن إسماعيل البُخارِيّ
بابُ مولِدِهِ ونسبه: قال الإمام الذهبي رحمه الله: هو الإمام الحجة العلم الناقد المجتهد شيخ الإسلام قـدوة الحفّاظ أبــو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري.
المُصَنِّفُ للجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه،, والتاريخ الكبير والأدب المفرد وغير ذلك من التّواليف المهذّبة التي لم يُسبق إليها.
* أبوه: قال البخاري: سمع أبي من مالك بن أنس، ورأى حماد بن زيد، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه.
* مولده: ولد أبو عبد الله في شوال سنة 194 هجري، ورُبّيَ يتيمًا في حجر أمّه.
* صفته: كان محمد بن إسماعيل شيخًا نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير.
* فَقْدُ بصره في الصّغر: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال لها: يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره.
* باب بَدءِ طلبِه العلم: وعن محـمد بن أبـي حاتم، قال: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان (يعني ابن عيينة)، عن أبي الزبير(يعني محمد بن مسلم بن تَدْرُس)، عن إبراهيم (النّخعي)، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل. فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن 11سنة.
* بابُ ذكر تَصانيفه:
* التاريخ الكبير: يُعتبر (التاريخ الكبير) للبخاري من أنفس ما كتب في علم الجرح والتعديل. و (التّاريخ الكبير) أعجوبة حيّرت المُحدّثين.
قال محمد بن أبي حاتم: وسمعته يقول: صنفت جميع كتبي ثلاثً مرّات.
وسمعته يقول: أخذ إسحاق بن راهويهِ كتاب (التّاريخ) الذي صنفتُ، فأدخلهُ على عبد الله بن طاهر (حاكم خرسان)، فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله، فتعجب، منه، وقال لست أفهم تصنيفه.
* الصّحيح الجامع:
قال الإمام الذّهبي رحمه ُ الله تعالى: وأما (الصحيح) فهو أعلى ما وقع لنا من الكتب الستة في أول ما سمعت الحديث، وذلك في سنة 692. فما ظنّك بعُلوّهِ اليوم وهو سنة 715؟!! لو رَحَلَ الرجلُ من مسيرة سنة لسماعِهِ لَمَا فَرَّطَ. كيف وقد دام علوّه إلى عام ثلاثين؟ وهو أعلى الكـتـب الستـة سنـدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء كثــير من الأحاديــث; وذلــك لأن أبا عبد الله أسنُّ الجماعة، وأقدمهم لقيا للكبار، أخذ عن جماعةٍ يروي الأئمة الخمسة عن رجل عنهم.
قال الذّهبي رحمهُ الله تعالى: جزاهُ الله عن الإسلام خيرا, نِعْمَ ما ادَّخر لمَعادِه.
وقال خلف الخيام: سمعت إبراهيم بن معقل، سمعت أبا عبد الله يقول: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب.
قال البخاري : أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث. وقال: صنفت (الصحيح) في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.
وقال محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتابي (الصحيح ) حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين.
وفي الصحيح 7275 حديثا بالمكرر و4000 بحذف المكرر.
* بابُ ذكر رِحْلته في طلب العلم: دخوله العراق:
دخل محمد بن إسماعيل إلى العراق في آخر سنة 210 وعزم على المشيِ إلى عبد الرّزاق صاحبُ المُصنّف فبلغه وفاته، مع أنّ قُدماء شيوخه أعلى من عبد الرّزاق.
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت البخاري يقول: دخلت بغداد ثماني مرات، في كلّها أجالس أحمد بن حنبل، فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله، تدعُ العلم والناس، وتصير إلى خُراسان؟ ! قال: فأنا الآن أذكر قوله.
دخوله نيسابور (في خرسان, مدينة عظيمة, معدنُ الفضلاء ومنبع العلماء, واليوم هي في إيران).
وقال الإمام أبو عبد الله الحاكم صاحب كتاب المستدرك: أول ما ورد البخاري نيسابور سنة 209، ووردها في الأخير سنة 250، فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام.
* اجتهادهِ في طلب للعلم: وقال محمد بن أبي حاتم الورّاق: كان أبو عبد الله، إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ(صَمِيمُ الصيْف) أحيانا، فكنت أراهُ يقومُ في ليلةٍ واحدةٍ خمسَ عشْرَةَ مرّة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القدّاحة، فيوري نارًا، ويُسْرِجُ، ثم يُخْرِّجُ أحاديث، فيعلّمُ عليها.
* بُشرى المؤمن رُؤيا تُرى له: وقال محمد الورّاق: سمعت النجم بن الفضيل يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، كأنه يمـشي، ومحمَّـد بن إسمـاعيل يمشـي خلفـه، فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه، وضع محمد بن إسماعيل قدمه في المكان الذي رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه.
* تحرّيه الشّيوخ في أخذِ الحديث: قال البخاري: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء. كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث، إن كان الرجل فَهْمًا. فإن لم يكن سألته أن يخرج إليَّ أصله ونُسخته. فأمّا الآخرون لا يُبالون ما يَكتبون، وكَيْفَ يكتبون!.
قال الورّاق: وسمعته قبل موته بشهر يقول: كتبت عن ألف وثمانين رجلا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وسمَّى خلقا. ثم قال: فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء (أن الدين قول وعمل)، وأن القرآن كلام الله.
* بابُ سِعَةُ حفظه وعلمهِ وعلوِّ كعبه: كان نجمًا في عصرهِ الذي زخم بالعُلماء الكبار...
قال الورّاق: سمعت إبراهيم الخواص يقول: رأيت أبا زرعة كالصبي جالسا بين يدي محمد بن إسماعيل، يسأله عن علل الحديث. (وأبو زرعة هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد سيّد الحُفّاظ).
وقال: سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي، فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد...
* في البصرة: يغلبهُ النّاسُ فيعقد مجلسهُ في الطّريق:
كان أهل المعرفة من البصريين يَعْدون خَلفَهُ في طلبِ الحديث وهو شابٌّ حتى يَغْلِبوه على نفسه، ويُجلِسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوفٌ، أكثرُهُم مِمّن يكتب عنْهُ. وكان شابًّا لم يخرج وجهه.(ليس له لحية). وكان يحضُر مجلسهُ ألوف بالبَصرة فحدّثهم يومًا بأحاديث بصريّة, وقال: هذه ليست عندكم!.
مـلـحـوظـة هـامـة: القصة التالية لا تصح لجهالة شيوخ ابن عدي المروية عنهم.(يحيى صالح).
* أهل بغداد يَمتحنون البُخاريَّ:
وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمِعَ به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مِائة حديثٍ، فقلبوا مُتونَها وأسانيدَها، ودفعوا إلى كل واحد عشرةَ أحاديث ليُلقِيَها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عَشَرَتِه، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. وكذلك حتى فرغ من عَشَرَتِه. فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعضٍ، ويقولون: الرجل فَهِمَ. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعَجْزِ، ثم سأله الثاني والثّالث حتّى فرغوا, وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه. فلما علم أنّهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا وكذا، والثالث كذا إلى العشرة، يرُدُّ كلُّ متن إلى إسناده حتى كمل المائة. فأقرَّ له الناس بالحفظ.
انتهت القصة، وهي غير صحيحة، والإمام البخاري رحمه الله تعالى في غنىً عن تزكيته بما لا يصح.(يحيى صالح).
* أهل سمرقند يَمتحنونه: وكان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام،وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد، ولا في المتن.
* يُسأل عن الأسامي والكُنى: وقال أحمد بن حمدون: رأيت محمد ابن إسماعيل في جنازة سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسامي والكنى والعلل، ومحمد بن إسماعيل يمر فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: "قل هو الله أحد".
* كثرة شيوخه: عن جعفر بن محمد القطان إمام كرْمينية يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده.
* بابُ ذِكرِ ثناء الأئمّةِ عليه:
* الإمامُ مُسلم بن الحجاج الإمام صاحبُ الصّحيح:
وجاء إلى البخاري فقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذَ الأسْتاذين، وسيدَ المحدثين، وطبيبَ الحديث في عِلَلِهِ.
(الأستاذ: هي كلمة أعجمية دخيلة على اللّغة العربية تُطلقُ على المُعلّم الماهرِ بالشّيء)
* عبد الله بن مُنير وأبو عيسى محمّد بن عيسى التّرمذي:
وقال أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله ابن منير، فلما قامَ مِنْ عِنْده قال له: يا أبا عبد الله، جعلك الله زَيْنَ هذه الأمة. قال الترمذي: استُجيب له فيه.
* قُتيبة بن سعيد بن جميل أبو رجاء الثّقفي شيخ الإسلام المحدّث الإمام شيخ البُخاري:
وقال محمد بن يوسف (الفريابي): كنا عند أبي رجاء، فسُئِل عن طلاق السكران، فقال: هذا أحمد بن حنبل وابن المديني وابن راهويه قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى محمد بن إسماعيل. وكان مذهبُ محمد أنه إذا كان مغلوبُ العقلِ حتّى لا يذكر ما يُحدِّث في سكره، أنه لا يجوز عليه من أمره شيء.
* بُنْدَار الإمامُ الحافظ محمد بن بشار (لقب بذلك، لأنه كان بندار الحديث في عصره ببلده، والبندار الحافظ )، وكان يُحبُّ البُخاري ويُقدّرهُ ويفتخر به:
قال حاشد بن إسماعيل: كنت بالبصرة، فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل، فلما قدم قال بندار: اليوم دخل سيد الفقهاء.
قال محمد بن يوسف الفريابي: لمّا دخلت البصرة صرت إلى بِنْدار، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من خُراسان. قال: من أيها؟ قلت: من بُخارَى، قال: تعرف محمد بن إسماعيل؟ قلت: أنا من قرابته، فكان بعد ذلك يرفعني فوق الناس.
* أبو عبد الله إمام أهل السّنة أحمد بن حنبل:
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما أخرجت خراسان مثلَ محمد بن إسماعيل.
* بابُ ذكر مِحْنته:
* قول الإمام البُخاريّ في خلق القرآن:
قال الفربري: سمعت البخاري يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال مخلوق فهو كافر.
* محنتهُ مع والي بُخارى:
بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احمل إليَّ كتاب (الجامع) و (التاريخ) وغيرهما لأسمع منك. فقال لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس. فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري. وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبيصلى الله عليه وسلم : "من سُئِلَ عن علمٍ فكتمهُ ألجِم بلِجامٍ من نار" فكان سبب الوحشة بينهما هذا، فاستعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، فدعا عليهم، فلم يأت إلا شهر حتى ورد أمر بأن ينادى على خالد في البلد، فنودي عليه على أتان. وأما حريث، فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيها ما يجل عن الوصف. وأما فلان، فابتلي بأولاده، وأراه الله فيهم البلايا.
* محنتهُ مع محمد بن يحيى الذهلي في مسألة "اللفظ بالقرآن":
قال مسلم بن الحجاج: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، استقبلوه مرحلتين وثلاثة. فقال محمد بن يحيى في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله. فاستقبله محمد بن يحيى (الذُّهلي) وعامة العلماء، فنزل دار البخاريين، فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شيء من الكلام، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه، وقع بيننا وبينه، ثم شَمِتَ بنا كل حروري، وكلُّ رافضي، وكلّ جهْمي، وكل مُرجِئ بِخراسان. قال: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل، حتى امتلأ السّطحُ والدّار، فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث، قام إليه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه. فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه. ثم قال في الثالثة، فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة. فشغَّب الرجل، وشغَّب الناس، وتفرقوا عنه، فقال بعض الناس: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، حتى تواثبوا، فاجتمع أهل الدار، وأخرجوهم.
ولم يبقَ مع الإمام البخاري سوى الإمام مسلم وأحمد بن سلمة (أحمد بن سلمة بن عبد الله: الحافظ، الحجة، العدل، المأمون، المجود أبو الفضل النيسابوري البزاز، رفيق مسلم في الرحلة).
* الإمامُ يَشكو بثّهُ وحزنَهُ إلى الله عزّ وجل:
وقال أحمد بن سلمة: دخلت على البخاري، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا رجل مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه، فما ترى؟ فقبض على لحيته، ثم قال: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرًا، ولا طلبًا للرئاسة، وإنما أبت عليَّ نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين، وقـد قصـدني هذا الرجـل حسدًا لِمَا آتاني الله لا غير. ثم قال لي: يا أحمد، إني خارج غدًا لتتخلصوا من حديثه لأجلي.
* بابُ ذكرِ وفاته :
قال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خَرْتَنْكُ -قرية قريبة من سمرقند - وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات.
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله يقول: إنه أقام عندنا أيامًا، فمرض، واشتد به المرض حتى وجه رسولا إلى مدينة سمرقند في إخراج محمد، فلما وافى تهيأ للركوب، فلبس خفيه، وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل أخذ معي يقوده إلى الدابة ليركبها، فقال - رحمه الله -: أرسلوني، فقد ضعفت. فدعا بدعوات، ثم اضطجع، فقضى رحمه الله. فسال منه العرق شيء لا يوصف. فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه. وكان فيما قال لنا، وأوصى إلينا أن كفنوني في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ففعلنا ذلك. فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك، فدام ذلك أياما، ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره، فجعل الناس يختلفون، ويتعجبون. وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر، حتى ظهر القبر، ولم نكن نقدر على حفظ القبر بالحراس. وغُلِبْنا على أنفسنا، فنصبنا على القبر خشبا مشبكا لم يكن أحد يقدر على الوصول إلى القبر فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب، ولم يكونوا يخلصون إلى القبر.. وأما ريح الطيب فإنه تداوم أياما كثيرة، حتى تحدث أهل البلدة، وتعجبوا من ذلك، وظهر عند مخالفيه أمره بعد وفاته، وخرج بعض مخالفيه إلى قبره، وأظهروا التوبة والندامة مما كانوا شرعوا فيه من مذموم المذهب.
وقال ابن عدي: سمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة 256. وعاش 62 سنة إلا 13 يوما.
********************************************