X

جامع الشيخ محي الدين‎ بدمشق

المنتدى العام

 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts
  • مرجان الأطرش
    Thread Author
    مشرف المنتديات العامة
    • Sep 2018 
    • 513 
    • 190 
    • 228 



    المساجد العثمانية في دمشق / جامع الشيخ محي الدين بن عربي
    الباحث عماد الأرمشي





    جامع الشيخ محي الدين
    باكورة المساجد العثمانية في مدينة الياسمين
    إن لفن العمارة الإسلامية في دمشق مكانة خاصة .. تتجلى من خلال نسيجها العمراني العريق ، فعمارة المساجد في دمشق تتميز عن جميع مساجد العالم ، بتحفها الأثرية المزدانة بالنقوش والرسوم والزخارف المختلفة ، والتي يغلب عليها الطابع التاريخي ، وما زالت تنطق بالتاريخ عندما تقع عين الناظر عليها . ومثال ذلك باكورة المساجد العثمانية في بلاد الشام ألا وهو : جامع الشيخ محي الدين بن عربي أول مسجد عثماني أنشأ في دمشق الشام .


    ويقع هذا المسجد المبارك على سفح جبل قاسيون الشرقي في منطقة حي الصالحية محلة الشركسية بسوق الجمعة .


    أمر السلطان العثماني سليم خان الأول الملقب بـ ( ياوز - الصاعقة ) بعد فتحه دمشق ؛ ببناء مسجد ، وتكية ، وتربة فوق مرقد المتصوف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الصوفي الأندلسي تكريماَ له ، حيث أن السلطان سليم كان شديد الإعجاب بآراء الشيخ محي الدين الصوفية ، ومحاولاَ للتقرب من أهالي مدينة دمشق الشام بهذا الصرح الجميل المبارك في سنة 923هجرية الموافق 1517 للميلاد من القرن السادس عشر الميلادي


    أول من أرخ لهذا الجامع : المؤرخ الدمشقي بن طولون الصالحي ، حين أطلق عليه اسم ( جامع الخنكار ـ أي السلطان ) ، وأنه أول جوامع دمشق العثمانية ، وقد رممه السلطان سليم الأول حيث كان الجامع يومها عبارة عن بناء متواضع ، فيه منبر صغير ومحراب منيف ، دفن فيه الشيخ محي الدين بن عربي .ولأجله جدده السلطان ، وعين له أربعة مؤذنين ، وثلاثين قارئاً يختمون القرآن كل يوم ، وأضحى جامع السلطان سليم خان ... ( جامع الشيخ محي الدين ) من أعظم المساجد في تلك الفترة .


    وعٌرف الجامع بعدة أسماء مختلفة : منها الجامع السليمي ـ نسبة إلى السلطان سليم الأول ، ومنها الجامع المحيوي ـ نسبة لاسم الشيخ محي الدين ، وكذلك جامع الخنكار أي جامع السلطان سليم الأول كما ذكر ابن طولون .
    أما تاريخ بناء المسجد فيعود الى ما قبل دفن الشيخ محي الدين بن عربي فيه ، حين كان تربةً للقاضي محيي الدين بن الزكي ، ومن ثم دفن فيها الشيخ محي الدين بن العربي .. فتحول اسم هذه التربة من تربة القاضي محيي الدين بن الزكي الى تربة الشيخ محيي الدين المجاورة لحمام الزكي .
    الصورة من أرشيف المهندس همام سلام
    ومن ترميم الأستاذ : مهند حلبي


    ونتيجة إهمال التربة ، وإهمال القائمين عليها تحولت إلى خرابة ..... وعند دخول السلطان سليم الأول دمشق عام 922 للهجرة ، أمر بأعمار التربة المذكورة ، إكراماً لمقام ومكانة الشيخ ابن عربي عند السلاطين ، ولما يكنه آل عثمان من محبة لهذا المتصوف الكبير الذي بلغت مصنفاته وكتبه مكتبات بلاد الروم والعجم .
    فأمر ببناء جامع عظيم فوق التربة ، وانتهى البناء في محرم سنة 924 للهجرة ، كما عمر قبالة الجامع تكية ، وسميت أيضاً : بالتكية السليمية ، وتعرف المنطقة بأسرها حاليا بحي الشيخ محي الدين بن عربي وتلفظه العامة من أهل الشام ( الشيخ محدين ) .. اختصارا لكلمة الشيخ محي الدين بن عربي .
    الصورة من أرشيف الأستاذ عصام حجار


    وقد فند شيخنا الفاضل فضيلة الشيخ عبد القادر بن بدران في منادمة أطلاله السلطان العثماني فقال :
    لما دخل دمشق السلطان سليم خان ابن السلطان بايزيد خان ابن السلطان محمد خان تاسع ملوك بني عثمان كان على قبر ابن عربي تابوت من الخشب ، وكان بقربه مزبلة ، وحمام قديم منافعه معطلة .وكان السلطان يحبه لاشتهار مصنفاته ببلاد الروم ، فأخذ مكاني المزبلة والحمام .. وعمرهما جامعا بمنبر ومحراب ، وصرف عليه أموالا عظيمة ، ورتب له وظائف وقراء وأنواعا من الخيرات ، وجعل له أربعة مؤذنين ، وثلاثين قارئا يقرؤون القران عند طلوع شمس كل يوم فيختمون ختمه .


    وأوقف السلطان للجامع أوقافا دارة ، منها قرية التل ، وقرية منين وحرستا وعذرا ، وقيسارية الحرير بدمشق ، وطاحون باب الفرج وغير ذلك من الطواحين والدكاكين والجص المسمى بالجبصين والثلج .وبنى مقابل الجامع تكية ، يطبخ بها الطعام صباح ومساء كل يوم ، وفي يوم خميس يطبخ الأرز المفلفل والأرز بالعسل ، ثم أنها احترقت سنة اثنتين وستين وتسعمائة 962 للهجرة ما يوافقه 1554 للميلاد ، ثم عمرت فصارت أحسن ما كانت أولا .
    الصورة من أرشيف الدكتور نزار حسيب القاق


    وعيّن الملا عثمان الحنفي التركي للخطابة ، والمؤرخ الدمشقي محمد بن طولون للإمامة ، وأحمد الأوغاني لمشيخة التكية ، ومدت قناة من مياه نهر يزيد عبر ناعورة للوضوء مازالت قائمة إلى اليوم ولسقاية بالبيمارستان القيمري الملاصق للجامع ، وبذلك غدا الجامع من أجمل مساجد دمشق كما ذكر إمام الجامع نفسه المؤرخ الدمشقي أحمد بن طولون الصالحي في كتابه القلائد الجوهرية : وأرخ القاضي محي الدين العدوي البناء السليمي بقوله :
    سليم بنى لله خيرا ومسجدا ... وقد تم في تاريخه خير جامع


    ونقول هنا : أن السلطان سليم الملقب ( بالصاعقة ) ولد باماسية سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة ، وجلس على تخت السلطنة وله من العمر ست وأربعون سنة ، وكان ملكا قهاراً ، وسلطانا جباراً قوي البطش ، كثير السفك للدماء ، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس ، عظيم التجسـس على أخبار الناس ، وربما غير لباسه ، وتجسس ليلا ونهارا ، وكان شديد اليقظة ، والتحفظ ، يحب مطالعة التواريخ ، وأخبار الملوك ، وله نظم بالفارسية والرومية والعربية ومما ينسب إليه من النظم قوله :
    الملك لله من يظفر بنيل منى *** يردده قهرا ويضمن بعده الدركا
    لو كان لي أو لغيري قدر انملة *** فوق التراب لكان الكل مشتركا

    حمل حملة عظيمة على الشاه إسماعيل ، فالتقاه بقرب تبريز ، فهزمه ، وشتت شمله ، ثم رجع في طريقه إلى جهة حلب ، فوقع المصاف بينه وبين قانصوه الغوري ، ملك مصر والشام بمرج دابق شمالي حلب ، فانكسر عسكر الغوري وهلك هو تحت سنابك الخيل .
    فملك السلطان سليم حلب ، ودمشق ، ثم توجه إلى مصر ، وقاتل طومان باي احد ملوك الجراكسة فقتله ، واستولى على مصر ، فهو أول ملوك بني عثمان الذين ملكوا البلاد العربية ، وجعل في مصر القضاة الأربعة ، ثم استولى على الأرض الحجازية ، وغيرها ..ورتب الرواتب وأبقى الأوقاف على حالها ، ورتب لأهل الحرمين سبعة آلاف اردب حنطة في كل سنة ، ثم عاد إلى القسطنطينية ، فابتلي بداء الجمرة ، فكانت سبب موته سنة ست وعشرين وتسعمائة .


    وللجامع جبهة حجرية جميلة ، وبوابة ضخمة و لكنها منخفضة عن سطح الطريق بسبع درجات ، وهي مشيدة من الحجارة الأبلقية ( البيضاء و السوداء والمزية ) ينصفها شريط من الحجارة المدككة كما هي طرز العمارة المملوكية و متوجة بإسكفة الباب كتب عليها ما نصه :


    السطر الأول :
    الحمد لله أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف الإمام الأعظم ملك العرب والعجم خادم الحرمين الشريفين السلطان سليم بن السلطان بايزيد بإشارة محمد بدرخان
    السطر الثاني :
    خلد الله ملكه وسلطانه وكان ابتداء عمارته في تاسع شوال سنة ثلاث و عشرين و تسعمائة والفراغ منه في الرابع والعشرين من المحرم سنة أربع وعشرين وتسعمائة .

    وفي نص أخر
    السطر الأول :
    الحمد لله أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف مولانا للإمام الأعظم ملك العرب والعجم خادم الحرمين الشريفين السلطان سليم شاه بن بايزيد بن محمد خان
    السطر الثاني :
    خلد الله ملكه وسلطانه وكان ابتداء عمارته في تاسع شوال المبارك سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة والفراغ منه في الرابع والعشرين من المحرم سنة أربع وعشرين وتسعمائة . أي بعد سنة و نيف من دخوله لبلاد الشام ومصر .وكان ابتداء عمارته في تاسع شوال سنة ثلاث و عشرين و تسعمائة هجرية( أي ما يوافقه الموافق 1517 للميلاد )والفراغ منه في الرابع والعشرين من المحرم سنة أربع وعشرين وتسعمائة( أي ما يوافقه 1518 للميلاد )أي بعد سنة و نيف من دخوله لبلاد الشام ومصر .


    أقول هنا ضمن أبحاث مساجد دمشق دراسة تاريخية تحليلية مفصلة ، أنه لم يُستخدم في بناء الجامع فن العمارة العثمانية الشهيرة المعروفة في جوامع اسطنبول ، بل بُنِيَ الجامع على طراز العمائر المملوكية التقليدية المتقشفة ، إذ لم يكن التأثير العثماني قد دخل الى بلاد الشام في تلك الحقبة لكون العثمانيين حديثي عهد في دمشق .


    قام بتصميمه المهندس العثماني شهاب الدين بن العطار ، وساعده في استملاك الأراضي المجاورة له والإشراف على البناء (القاضي ولي الدين بن فرفور) فقد اشتروا البيوت المجاورة للتربة المدفون بها الشيخ محي الدين ، وصرفوا أموالا عظيمة لشراء أرضي جديدة .وهدموا التربة القديمة لحفر أساسات قبة الجامع ، ونقلوا الأعمدة الحجرية من معظم مناطق دمشق ، و كذلك أعمدة دار السعادة المملوكية ، والتي كانت في مقدمة سوق الحميدية اليوم بجوار باب النصر المهدوم أيضا ، ونصبوا له منبر و محراب .. وصُليت أول صلاة للجمعة فيه بعد خطبة الشيخ ولي الدين بن فرفور.


    وذكر لنا الدكتور طلس عند إحصائه لمساجد دمشق عام 1942م ضمن تحقيقه لذيل ثمار المقاصد هذا الجامع بانه من الجوامع الكبيرة ، يتألف من صحن كبير الحجم ، جميل وعظيم ، مرصوف بالرخام الملون والحجر الأبيض والأصفر ، يتوسطه بحرة ماء لطيفة للوضوء مسدسة الأضلاع مقابلة لجدار حرم بيت الصلاة .


    فيه رواق عظيم يقوم على أربع قناطر عالية ، ومؤلف من مداميك ابلقية ، فيه ثلاثة أبواب لدخول الحرم الفسيح و المزدوج الأجنحة ( مؤلف من بلاطتين توازيان جدار القبلة ) بحيث يخترق الصف الأول واحد من الحوامل وهي عبارة عن أعمدة تعلوها تيجان كورنثية ملونه ذات أصول سابقة للفن المعماري الإسلامي .


    ويقوم الحرم "بيت الصلاة " على خمس قناطر وأربعة أعمدة ، ومكون من ثلاثة مجازات موازية للقبلة بائكات ( البائكة مجموعة عقود مبنية على اتجاه واحد ) يقطعها مجاز قاطع منحرف قليلاً إلى الغرب .


    الأمر الذي يقسم هذه البائكات إلى جزأين متساويين في كل جزء ثلاث بوائك ، و كل بائكة تتكون من ستة عقود ؛ وتقف هذه العقود على أعمدة رخامية متوجة ، ولها كراسي أسفل قواعدها ، ويزين جدران حرم الجامع أيضاً ألواح القيشاني من الصناعة الدمشقية .


    حرم بيت الصلاة بجامع الشيخ محي الدين بن عربي


    حرم بيت الصلاة بجامع الشيخ محي الدين بن عربي


    ومازالت القبلية على حالها يتوسطها محراب المسجد من الحجر المزي والأبيض ، وتم تجديده في فترات سابقة ، ويوجد على جانبيه عمودان صليبيان يحملان قوس المحراب ، و مزخرف زخارف جصية مضفورة جميلة ، ومحيطة بتاج المحراب و متوج بالآية القرآنية ما نصها :
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. الحج:77 وهو من المحاريب القديمة في عمارة مساجد دمشق ، ولعل هذا المحراب العثماني هو الذي ذكره الدكتور اسعد طلس : أنه المحراب القديم للمسجد .


    أما المنبر فهو منبر خشبي مجدد جميل ،مصنوع من خشب شجر الجوز ، يصعد إليه بتسع درجات ، ويعلوه مظلة مزخرفة زخرفة جميلة ، ومتوج بقلنسوة خشبية تحمل رمحاً و ثلاث تفاحات و هلال مغلق .
    ويعتبر منبر جامع الشيخ محي الدين من أبدع التحف الخشبية الموجودة في مساجد دمشق لكونه باكورة المساجد العثمانية ، وبه زخارف هندسية بشكل ورود ، وأغصان معجونة ، وعدة حشوات مفرغة دمشقية الطراز داخل إطارات ذات زخارف من فروع العنب محفورة حفرا بارزا ، بجانبه القناطر الحاملة لسقف المسجد الجملوني .


    تتألف تغطية الحرم من سقفين جملونيين متوازيين ، ذو هياكل إنشائية خرسانية حديثة ، و أغلب ظني أنها جددت بالعصر العثماني ، فكتلة الجملون ترتكز على جداران الأقواس المحمولة على جسور الربط الباطونية ، أما العوارض الباطونية فيستند ثلثها الأول جدار القبلية الجنوبي و الباقي على الأعمدة الحوامل .
    والحرم نفسه مضاء من خلال نوافذ موضوعة داخل الجدران الضخمة بشكل منظم متناسق الأبعاد مع أرضية المسجد ، و الجدار الجنوبي متآخي مع النوافذ التي تم دمجها من الزجاج المعشق و الملون مع بعض من النوافذ العلوية ومضاءة من السقف الملتحم مع الجدار الجنوبي .


    في الزاوية الجنوبية الشرقية للجامع المحيوي ـ أي محي الدين ـ هناك درج حجري عريض ينزل منه إلى غرفة ذات قبة كبيرة فيها ضريح الشيخ محي الدين بن عربي و المتوفى سنة 638 للهجرة الموافق عام 1240 للميلاد .


    يتوسط ضريحه الغرفة المزخرفة ببلاطات القاشاني الزرقاء المزهرة ، وحول القبر شبكة من الفضة المزخرفة ويزين جدران الضريح الذي دفن فيه الشيخ ألواح القيشاني البديعة من الصناعة الدمشقية الصرفة .


    ضريخ الشيخ محي الدين بن عربي
    وتمتلئ غرفة الضريح بالعطايا النذرية ، و يقوم فوق الضريح هيكل من الأشرطة البرونزية المصبوبة ( على شكل أغصان لأزهار ) و صفائح فضية


    يعلو الضريح قبة ملساء مدببة تستند الى رقبة وحيدة مضلعة بطبقة واحدة ، ومؤلفة من اثني عشر ضلعاً فيها اثنتا عشرة نافذة مقوسة زجاجية . و تبدو بالصورة قبة ضريح الشيخ محي الدين و عناصرها الزخرفية التزينية ذات التأثيرات العثمانية المتأخرة .


    إلى جانب قبر الشيخ محي الدين بن عربي يوجد قبري ولديه سعد الدين وعماد الدين .
    صورة حديثة توضح أضرحة أبناء الشيخ محي الدين العربي ( سعد الدين ) و ( عماد الدين ) بجانب ضريح الشيخ محي الدين


    وإلى اليمين قليلاً قبر الأمير عبد القادر الجزائري وبقي ضريحه فارغاً في موضعه بعد نقل رفاته إلى بلاده الجزائر بعد حصولها على الاستقلال


    بجانب ضريح الأمير عبد القادر الجزائري ، ضريح الشيخ محمد أمين الخربوطلي ناظر الجامع السابق


    بجانب ضريح الشيخ محمد أمين الخربوطلي ، يوجد ضريح آخر لناظر الجامع الشيخ محمد بن طه سكر الحسيني الرفاعي .


    وإلى جانب الباب توجد مقبرة تضم بعض عظماء الأتراك ، ومنهم والي الشام راشد باشا ولكن بدون ذكر اسمه على الشاهدة كما ورد في بعض المراجع التاريخية . ، وكذلك ضريح محمود سري باشا صهر الخديوي إسماعيل حاكم مصر . ولا يزال هذا الجامع حتى الآن شاهداً على عظمة الأصالة الفنية الإسلامية على مر العصور.


    ترتفع المئذنة فوق الباب الرئيسي للجامع مباشرة وتعتبر هذه المئذنة " أم المآذن العثمانية بدمشق " ذات الرأس المخروطي ، و محلاة بزخارف عثمانية متأثرة بفن الباروم الأوربي ، ويعتبر هذا التصميم نوعاً من التداخل بين الثقافتين العربية والتركية ، و من المرجح أن تكون المئذنة في الأصل أقل ارتفاعا من وضعها الحالي .


    وهي تتألف من الأسفل الى الأعلى من جذع مثمن أصم ، فجذعها مملوكي الطراز ، ومستندة على قاعدة مربعة لكون الجذع مغموس بالقاعدة ، تقطعه الأشرطة التزينية السوداء ، وفي منتصفها عدد ثمان نوافذ صماء تزينية ، ذات أقواس ثلاثية الفصوص في كل ضلع .


    تأخذ شرفتها شكل الجذع المثمن محمولة على مساند من المقرنصات ، كما يحيط بالشرفة درابزين حجري منحوت مجوف بشكل جميل محاط بتصوينة حجرية مخرمة بأشكال هندسية دقيقة وترتفع فوقها مظلة خشبية مجددة ، أخذت شكل الشرفة .


    تزين بقية الجذع الأوسط أشرطة أفقية و أخرى مسننة أقرب ما تكون إلى الأرقش منها إلى المدككة ، ويلي تلك الأشرطة المسننة شرفة مؤذن ثانية و لكنها صغيرة و بدون مظلة ، وهي أيضاً ترتكز على مقرنصات يعلوها طنف لانحناء متقلص لعله كان مكانا للبصلة القاهرية (( الشكل البصلي الذي يتوج المآذن المملوكية التي يكثر وجودها في القاهرة )) . وتبدو تصوينة المؤذن المؤلفة من 12 شبك حجري جميل .


    يعلو المئذنة جوسق عثماني الطراز مثمن أضيق قطراً من جذع المئذنة السفلي ، أبلق ومدكك التركيب بحجارته السود و البيض المنكسرة ، ، لينتهي الجوسق الأبلق برأس مضلع مخروطي عثماني الطراز مصفح بألواح التوتياء .


    والجدير بالذكر انه يوجد في خاصرة مئذنة جامع الشيخ محي الدين ، مصغر للمئذنة ذو ذروة بصلية ، متصلة بجدع المئذنة الأصلية بواسطة رواق مسقوف وتُعرف باسم ( التقيسة ) ، وقد خصصت هذه الحجرة للمُلبي الذي يلبي إمام الجامع بالتكبيرات .. ويلبيه بصوت عالٍ ليسمع كافة المصلين بالصحن الكبير وهي مبتكرة من العهد المملوكي وقد استلهم مُشّيد المئذنة بفكرة وجود حجرة للمُلبي ، من فكرة بناء مئذنة العروس بالجامع الأموي ، فجعل لها مئذنة صغيرة في خاصرة المئذنة .


    وقد ذكر العلامة محمد أحمد دهمان أن زلزال دمشق الشهير سنة 1173 للهجرة الموافق 1759 قد أطاح برأس مئذنة العمارية الخنكارية .. فأعيد بنائه ، ورممت أقسامها المتضررة ، وهنا حدثت مفاجئة التبديل الطرازي من جوسق مملوكي الى مئذنة عثمانية متكاملة .
    كما حدث عند تجديد رأس مئذنة عيسى بالجامع الأموي ، فأختلط الطرازان .. وتغيرت معالم وحدانية هوية المئذنة ، وذلك مرجعاً لمخطط الأماكن الأثرية المعروفة بين سنة 553 ـ 1153 هجرية لمدينة الصالحية الذي وضعه دهمان فسماه الجامع السليمي تحت رقم ـ 50 ـ في حي الشيخ محي الدين .


    يقوم في مواجهة الجامع على الجانب الآخر من الشارع و لكن مع انحراف نحو الغرب و الشمال الغربي مطبخ السليمية التابع للجامع نفسه ، وأن باني هذا المطبخ هو السلطان سليمان ابن السلطان سليم وذلك في سنة 960 هجرية ، و أغلب الظن أن الباني هو السلطان سليم الأول ، و التاريخ المثبت على الباب و اسم السلطان سليمان فهما يشيران الى تجديد التكية بعد الحريق . ويعلو هذا البناء قبتان ضخمتان لكن البناء احترق و تهاوى في سنة 962 هجرية ، ثم اعيد بناؤه من جديد و يصورة أجمل .
    أما التكيّة فكانت تشتمل على بيت للفقراء من الرجال وآخر للفقيرات من النساء وثلاثة حواصل للمؤن ومطبخ كبير، وفيه فرن يخبز قنطارين كل يوم، وفي المطبخ يتم طبخ ستين رطلاً (150 كيلو جراماً) من اللحم، وفي يوم الخميس يكون الطعام الرز المفلفل مع اللحم، ومعه الرز بالعسل، وفي السنوات الأخيرة كان أهل البر والإحسان يتبرعون لطهي الشوربة باللحمة مع توزيع الخبز في الأيام المباركة وخاصة في شهر رمضان المبارك، وقد أغلقت التكية بعد أن أصبحت مأوى للمرتزقة والمتشردين.
    واليوم لا يزال لجامع الشيخ محيي الدين شهرة واسعة في دمشق وما حولها من القرى، ويؤمه كثير من الناس للتبرك ووفاء النذور، كما يوزع فيه الطعام والحلوى من المحسنين على الفقراء والمصلين.


    ولقد زود المسجد بناعورة ذات بكرات هي الناعورة الوحيدة مازالت باقية قائمة حتى اليوم في حي النواعير في الصالحية على نهر يزيد وكانت تغذي الجامع .والناعورة من تصميم العالِم الفلكي المشهور تقي الدين محمد بن معروف وهي عبارة عن دولاب ضخم يدوره بقوة رفع مياه نهر يزيد أحد فروع نهر بردى ، فيدير بدوراته مسنناً ضخماً من الخشب صنع بطريقة فنية وبقياسات علمية دقيقة ، ويدير هذا الدولاب دولاباً آخر مثبت في قمة البرج ، ربطت به سلسلة حديدية علقت بها دلاء تملأ بالماء من النهر وتفرغ في حوض في قمة البرج ، حيث تسير في قناة محمولة على جسر مقوّس إلى خزان للمياه ، ومنه توزع المياه إلى الجامع والميضأة ، وإلى التكية السليمية التي أنشئت إلى جانب الجامع في زمن السلطان سليم لإطعام الفقراء .


    وتصل مياه الناعورة أيضاً إلى بيمارستان القيمري الذي يعود إلى العصر الأيوبي في نفس حي الشيخ محي الدين الذي يقصده أهل الشام وخاصة مجموعات من الدراويش والضعفاء والمساكين والفقراء لزيارة ضريحه منذ مئات السنين ، ومن اجل هؤلاء برزت سوق الشيخ محيي الدين ، التي أصبحت اليوم واحدة من أهم الأسواق الشعبية في دمشق ، يقصدها الناس من جميع أنحاء المدينة ، لخصوصيتها الشديدة بالتنوع والغنى ، والتي يتفنن أهلها بطرق العرض واجتذاب الزبون ، وسميت بسوق الجمعة.


    والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي هو سليل أسرة عريقة في العلم والتقوى ، كان جده الأعلى عبد الله الحاتمي ، أحد قادة الفتوحات ومهتم بالفقه الإسلامي، وكان جده الأدنى أحد قضاة الأندلس وعلمائها وكان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف .
    في هذا الوسط المحب للعلم والعلماء نشأ وترعرع ومن صباه كان مرهف الحس والذوق ، قوي العاطفة، غلاب الوجدان ، رحب الآفاق في الهمة والتطلع ، انطلقت روحه تبغي أفقاً أعظم وأشمل من ألوان العلوم والمعارف التي ألفها ، فهو محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الحاتمي بن عربي .
    ولد في بلدة " مرسية " على الساحل الشرقي للأندلس سنة 560 للهجرة الموافق 1165 للميلاد ، وعاش فيها حتى بلغ الثامنة ، ثم انتقل إلى " إشبيلية " العاصمة الفكرية للإمبراطورية التي شملت شمال أفريقيا وفيها قضى عشرين عاماً ، حيث تلقى علوم الفقه والحديث والكلام ، واطلع على المذاهب الفلسفية وسائر علوم عصره .. انتقل بعد ذلك إلى المغرب وأقام فيها حتى عام 1201 ميلادي ، زار تونس ومصر والحجاز وبغداد والموصل والقدس والخليل ، ثم أقام في دمشق حتى وفاته سنة 688 للهجرة الموافق 1241 للميلاد طيب الله ثراه .



    إعداد عماد الأرمشي
    باحث تاريخي بالدراسات العربية والإسلامية لمدينة دمشق

    المراجع :
    ـ موقع وزارة السياحة / منطقة الصالحية والمهاجرين
    ـ في رحاب دمشق / العلامة الشيخ محمد أحمد دهمان س
    ـ ذيل ثمار المقاصد في ذكر المساجد / د. محمد أسعد طلس
    ـ منادمة الأطلال و مسامرة الخيال / الشيخ عبد القادر بن بدران
    ـ القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية / أحمد بن طولون الصالحي
    ـ النقوش الكتابية في أوابد دمشق / د. قتيبة الشهابي / د. أحمد الأيبش
    ـ مشيدات دمشق ذوات الأضرحة و عناصرها الجمالية / د. قتيبة الشهابي
    ـ الآثار الإسلامية في مدينه دمشق / تأليف كارل ولتسينجر و كارل واتسينجر، تعريب عن الألمانية قاسم طوير، تعليق الدكتور عبد القادر الريحاوي ـ 266
    - Damaskus: die islamische Stadt / Carl Watzinger & Karl Wulzinger
    ـ العمارة والمجتمع العثماني في مدينة دمشق بالقرنين التاسع عشر و العشرين الميلاديين للباحثين ويبر و ستيفان الموجود في جامعة برلين بألمانيا
    Stadt, Architektur und Gesellschaft des osmanischen Damaskus im 19. und frühen 20. Jahrhundert - Weber, Stefan, Universitat Berlin.




Working...
X